الصور الفنية في قصيدة “المساء” لخليل مطران
قصيدة “المساء” للشاعر اللبناني خليل مطران، واحدة من أبرز أعماله التي تتميز بغناها الفني وتعبيرها عن مشاعر الشاعر تجاه الحياة والموت والمجهول. لم تكن هذه القصيدة مجرد تعبير شعري عابر، بل هي تجربة فنية مدهشة تمزج بين الجماليات الشعرية والصور البلاغية الغنية. تنبع براعة مطران في هذه القصيدة من قدرته على خلق صور فنية متنوعة تنبض بالحياة وتعكس رؤيته العميقة للمفاهيم الإنسانية.
تعتبر القصيدة من أبرز القصائد التي تتناول مواضيع الليل والمساء كرمز للحزن، الفقد، والتأمل، إضافة إلى التفاعل الروحي بين الشاعر والطبيعة. وقد استطاع خليل مطران من خلال هذه القصيدة أن يعبر عن مختلف درجات شعوره بالاغتراب والموت والعودة إلى الذات، مما جعلها غنية بالصور الفنية التي تحمل في طياتها معانٍ متعددة.
المساء كرمز للغياب والموت
أولى الصور الفنية التي تبرز في قصيدة “المساء” هي الصورة الرمزية للمساء نفسه. في القصيدة، يشكل المساء لحظة انتقالية بين النهار والليل، وهو لا يمثل فقط تغيرًا في الضوء، بل أيضًا يعكس تغيّرًا في الروح والنفس. الشاعر يوظف المساء كرمز للغياب والموت، حيث يعبر عن هذه اللحظة بشكل يعكس حالة من الحزن العميق والتأمل في مصير الإنسان. لذلك، ليس المساء مجرد وقت من اليوم، بل هو وقت من الزمن الشخصي والروحي، حيث تتوقف الحياة لتأخذ نفسها في أحضان الهدوء والسكينة، مما يتيح للشاعر الفرصة للتفكير في ذاته وحياته.
في استخدامه للمساء كرمز للموت، يخلق مطران صورة شاعرية متكاملة، يجسد فيها لحظة النهاية أو التحول. الموت في القصيدة ليس بالضرورة موتًا جسديًا، بل هو موت روحي أو اغتراب داخلي عن الذات وعن العالم. تتبدى هذه الفكرة في السياق العام للقصيدة، حيث يربط الشاعر الظلام والغياب بالحزن العميق، ويرى في المساء فترة زمنية تأخذ الإنسان بعيدًا عن الواقع وتغرقه في بحر من التأملات حول الوجود والمجهول.
الطبيعة كمرآة للمشاعر الإنسانية
تشكل الطبيعة أحد العناصر الأساسية في صور “المساء”، حيث نجد أن خليل مطران يستحضر المشاهد الطبيعية المختلفة ليس فقط لتزيين النص، بل لاستخدامها كمرآة تعكس مشاعر الشاعر الداخلية. في هذه القصيدة، تتنوع الصور الفنية التي رسمها مطران للطبيعة من خلال استخدامه المكثف للمفردات الشعرية التي ترسم مشاهد من السكون، الظلام، والألم.
تتداخل العناصر الطبيعية في القصيدة مع الحالة النفسية للشاعر. فالأشجار والجبال والبحار، رغم تمثلها للطبيعة الخارجية، تتقاطع مع العواطف الداخلية للشاعر وتصبح كأنها شخوص تشارك في شعوره بالوحشة والعزلة. إن الشاعر في لحظة تأمل في المساء يشهد الطبيعة من حوله وكأنها هي أيضًا في حالة من السكون والانتظار، الأمر الذي يعزز من فكرة المجهول والترقب.
هذا التفاعل بين الشاعر والطبيعة يعكس حتمية المصير، إذ يبدو وكأن الشاعر يرى في الطبيعة قوة هائلة تتجاوز الإرادة البشرية، مما يخلق شعورًا بالضعف والتسليم للأقدار. تصبح الطبيعة بذلك غير مجرد خلفية، بل عنصرا حيويا يعكس مشاعر الشاعر في حالة انغلاقه وابتعاده عن العالم.
الصورة النفسية: العزلة والتأمل
من أبرز الصور الفنية التي رسمها خليل مطران في هذه القصيدة هي الصورة النفسية التي تحيط بالشاعر. نلاحظ أن الشاعر في “المساء” يمر بلحظات من العزلة الكاملة، وهذه العزلة هي في ذاتها صورة فنية تعبر عن الانفصال عن الآخرين، سواء في الحياة اليومية أو في محيطه الاجتماعي. العزلة التي يعيشها الشاعر في المساء ليست مجرد حالة اجتماعية، بل هي حالة نفسية يشعر فيها بالفراغ والغياب. هذا الفراغ قد يعكس حالة من التشتت أو الاغتراب، حيث يجد الشاعر نفسه في مواجهة مع الذات، التي تقوده إلى طرح الأسئلة الوجودية التي تتعلق بالحياة والموت والمصير.
تتجلّى الصورة النفسية في تنقل الشاعر بين مشاعر الحزن والتأمل، إذ يذهب بخياله إلى العوالم البعيدة التي تضعه في حالة من التأمل اللامتناهي. يظهر هذا التأمل في قصيدته كما لو كان الشاعر في حالة من البحث المستمر عن الإجابات، عن شيء يخفف من حزنه أو يضيء له الطريق في الظلام. إن الصراع الداخلي بين الرغبة في فهم الحياة والموت والبحث عن الأمل في زمن السكون، هو ما يمنح القصيدة قوتها الشعرية.
التشبيهات والاستعارات: أسلوب فني مميز
الشاعر خليل مطران لا يكتفي بوصف المشهد أو الحالة، بل يستخدم التشبيهات والاستعارات لتقوية الصور الفنية في القصيدة. نجد أن الصور التي يخلقها مطران هي صور ذات بعد شعري، إذ يعمد إلى المقارنة بين الأشياء بطريقة غير مباشرة، مما يضفي على النص عمقًا إضافيًا. على سبيل المثال، قد يشبه الشاعر الليل أو المساء بشيء ضبابي أو غامض، مما يوحي بمفهوم الحيرة أو الضياع. هذه الاستعارات والتشبيهات تساهم في بناء العالم الشعري الذي يريد أن يعيش فيه القارئ.
استخدام الاستعارات ليس فقط لتلوين النص، بل هو أداة تهدف إلى جعل القارئ يعايش الفكرة أو التجربة التي يمر بها الشاعر، وفي ذات الوقت تتيح له أن يفسر النص من زوايا مختلفة. فإذا كانت الشمس بالنسبة للبعض مصدرًا للنور، فإنها بالنسبة لمطران تصبح رمزًا للنهاية، وينتقل بالنص إلى مستوياته الرمزية التي تحكي عن تحول الأنوار إلى ظلال، وعن اللحظات التي تسبق النهاية.
العاطفة بين الحزن والطمأنينة
القصيدة في مجملها تنبض بالعاطفة المتناقضة التي تجمع بين الحزن العميق والطمأنينة. وفي الواقع، يشير خليل مطران في القصيدة إلى كيفية احتضان الفكرة المظلمة أو الحزينة في حالة من السلام الداخلي. فالمساء رغم رمزيته في الفقد، يقدم أيضًا فرصة للشاعر للاحتضان الذاتي والتصالح مع الأفكار المظلمة التي ترافقه. لكن الحزن، على الرغم من تغلفه بالسلام، يبقى في جوهره شعورًا نابعًا من لحظة عدم القدرة على الفهم أو التجاوز.
وفي هذه اللحظات، نجد الشاعر يدرك حدود نفسه البشرية في مواجهة مصير لا يمكن الهروب منه. إنه حزن يعترف بوجوده ويستمتع في بعض الأحيان بهذه اللحظات القاتمة التي تحمل معها الهدوء والراحة المؤقتة. كما تبرز صورة الهدوء المترافق مع الحزن كتعبير عن سكينة الليل الذي يلف الحياة برمّتها.
خاتمة
تعتبر “المساء” لخليل مطران قصيدة فنية مكتملة، تجمع بين الصور الرمزية والتشبيهات والاستعارات التي جعلت من النص واحدًا من أروع الأعمال الشعرية في الأدب العربي الحديث. الصور الفنية التي أبدعها مطران في هذه القصيدة ليست مجرد زخارف بل هي وسيلة لتمثيل أعمق ما في الروح البشرية من معانٍ عن الحياة، والموت، والوجود. لقد تمكن مطران من أن يخلق نصًا يعكس التوترات الداخلية للنفس البشرية، ويعيد ترتيب المعاني ليلائم حالة من العزلة الروحية التي يعيشها الإنسان في المساء.
